أمارة خالد بن علي الجريسي على رغبة


وَرِثَ خالدُ بن عليِّ الجريسي إِمَارَةَ «رَغْبَة» عن أبيه، وكان متميِّزًا بِبَسَالَةٍ عَزَّ مثيلُهَا، وبحكمةٍ مشهودٍ لها في الوقائع، وقد كانتْ والدتُهُ مِنْ آلِ مُوسَى من العُرَيْنَاتِ؛ وقد نَشَأَ عَن ذَلِكَ الإرْثُ الذي بين الجريسي والْمــُوسَى، ومنه بِئْرُ خِلَاقة.

وقد نَهَجَ خالدٌ في إمارتِهِ نَهْجَ والدِهِ في العَدْلِ والحَزْمِ والحِرْصِ على إقامةِ شعائرِ الدِّينِ؛ ومما قيل في ذلك:

وَلَدْ عَلِيْ حَامِي حْمَاكْ في عُقْدَتَهْ بِالـجَنُوبِيَّه
عَدِيمِ يا خَالِدِ الفَتَّاكْْ تِفْتِكْ بِمَنْ جَاكَ بِرْهِيَّهْْ
بِالجُهْدِ تِصْبِرْ عَلَى مَا جَاكْ للهْ يِسَمِّحْ لَكِ النِّيَّهْْ

ومزرعة "سَمْحَةُ الظاهريَّة" (الطالعية): كانت لعبد الكريم بن علي الجريسي وعبدِ الرحمنِ بنِ علي الجريسي.

وقد كان خالدٌ الجريسيُّ مناصرًا للإمامِ عبد الله بن سعود، ومعاصرًا له وللأحداثِ التي وَقَعَتْ في عَهْدِهِ؛ ففي عام 1236هـ عادتِ القُوَّاتُ التركيَّةُ ثانيةً إلى نَـجْدٍ بقيادةِ حُسَيْن بِك؛ الذي كان قد أثار الرُّعْبَ في نَـجْدٍ، وهَدَمَ ما بقي من قلاعها وحصونها، و«فَرَّقَ العساكرَ في النواحي والبُلْدانِ، فجَعَلَ في القَصِيمِ عسكرًا، وفي بلدانِ الوَشْمِ عساكرَ، وفي بلدان سُدَيْرٍ، وفي بلدانِ الْمِحْمَلِ، فنَزَلَتِ العساكرُ البلدانَ، واستَقَرُّوا في قُصُورِهَا وثُغُورِهَا، وضَرَبُوا على أَهْلِهَا ألوفًا من الرِّيَالات؛ كُلُّ بلدٍ أربعةُ آلاف، أو عَشَرَةُ آلاف، أو عشرون ألفَ ريالٍ.

فأخذوا أولًا مِنَ الناسِ ما عندهم مِنَ الدراهم، ثم أَخَذُوا ما عندهم مِنَ الذهب والفضة، وما فوق النساءِ من الْـحُلِيِّ، ثم أَخَذُوا الطعامَ والسلاحَ والْـمَوَاشِيَ والأواني، وحَبَسُوا النساءَ والرجالَ والأطفال، وعذَّبوهم بأنواعِ العذاب، وأَخَذُوا جميعَ ما بأيديهم؛ فمِنْهُمْ مَنْ مات بالضَّرْب، ومنهم مَنْ أصابتْهُ عِلَّةٌ أو عاهة، فلمَّا رأى الناسُ أنهم لا يُغْنِي عنهم ما أخذوه منهم، هَرَبَ أكثرُهُمْ في البراري والجبالِ والقِفَار، ونُهِبَتْ دُورُهُمْ، وقُطِّعَ أكثَرُ نَخِيلِهِمْ، وصار مع التُّـرْكَ أناسٌ في كُلِّ بلدٍ مِنْ أهلها: يُخْبِرُونَهُمْ بعوراتهم، ومَنْ كان تاجرًا، ومَنْ كان فقيرًا، ومَنْ كان يُحِبُّ التُّـرْكَ، ومَنْ كان يُبْغِضُهُمْ، وصارتْ مِحَنٌ عظيمة، وقَطَعُوا أكثَرَ نخيلِ «رَغْبَة» البلدةِ المعروفة».

وحَسْبَمَا ذَكَرَتْ بعضُ رواياتِ كِبَارِ السِّنِّ مِنْ أهلِ البلدةِ، فإنَّ بعضَ أعداءِ الجريسي مِمَّنْ يَرْغَبُونَ في زوالِهِ ناصَرَ جيشَ حُسَيْن بِك، ووَشَى بخالدٍ الجريسي لدى الأتراكِ، الذين كانوا يُخَيِّمُونَ على مَقْرُبَةٍ مِنْ «رَغْبَة» في موقعٍ يقال له: أُمُّ الشَّطَنِ، ماجعلَهُمْ يتوجَّهون إليه في "رَغْبَة"، فقَدِمَ الأتراكُ "رَغْبَة" وكان مقتل الأمير خالد في قلعته بعد حصار دام شهور من الأتراك وهدم القلعة ومات ومن معه بعد المقاومة. ثم عَمِلُوا على هَدْمِ عُقْدَةِ الجريسي فيها، وتقويضِ أركانِهَا؛ فصارتْ أثَرًا بعد قيام، وخبرًا بعد عِيَان، وما زالتْ آثارُهَا ماثلةً إلى يومنا هذا.

وإذا كانتْ كُتُبُ التاريخِ لم تَذْكُرْ ذلك صراحةً، فلعلَّ ذلك يَعُودُ إلى انشغالِ المؤرِّخين بحوادثَ أفدَحَ خَطْبًا وأَوْلَى بالاهتمامِ التاريخيِّ، مثل البلدانِ التي شَهِدَتْ تحوُّلاتٍ تاريخيَّةً جِذْرِيَّةً وأحداثًا عظيمةً مروِّعةً طَغَى ذِكْرُهَا على ما سواها؛ إلا أنَّ ديوانَ العَرَبِ الأوَّلَ (الشِّعْر) لم يُغْفِلْ ذِكْرَ ذلك الحَدَثِ (هَدْمِ العُقْدَة)؛ فكان مِمَّا حُفِظَ في ذاكرةِ الشِّعْر في ذلك قولُهُمْ :

يا خِيلٍ تِلْعَبِ الْـجُولَهْ على الْـحَاجِرْ وما حُولَه
الِدْ يُومِ دَزُّوا لَهْ يِبُونَه يِنْطَحِ الدُّولَهْ