رغبة الموطن الثاني لعائلة الجريسي


في بداية القرن الثاني عشر الهجري انتقل بعض آل الجريسي من الزلفي ليحطوا رحالهم ببلدة "رغبة" فمنهم من استقر بها ومنهم من انتقل عنها إلى غيرها من البلدان ، وحديثنا هنا سينصب على من بقي منهم برغبة واستقر بها وأخص به عائلة علي بن محمد الجريسي الذي أنشأ في "رغبة" حِصنَهُ الذي أَطلق عليه اسمَ "العُقدةِ"، كما أنشأ قبلَهُ والدُهُ مَزرعتَهُ التي أَسماها "بئرَ الرّفيعة"، ولا غَرْوَ؛ فهذان الاسمانِ يُذَكِّرَانِهما بأحبِّ البِقاعِ إليهما ، وصدق القائلُ:

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى مَا الْـحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّل
كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى وَحَـنِـيـنُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْـزِل



فقد كانتِ "العقدةُ" أحدَ أحياءِ مدينةِ "الزُّلْفِي" القديمةِ، كما كانتِ "الرفيعةُ" أحدَ أحياءِ "علقة" إحدى بلدانِ "الزُّلْفِي" القديمةِ أيضًا، ونَخْلُصُ من ذلك إلى أنَّ محمدًا الجريسيَّ، حين انتقل من "الزُّلْفِي" إلى رغبةَ مُصطَحِبًا معه ابنَهُ عَليًّا- لم ينسيا "الزُّلْفِي" ، بل إنَّ بعضَ ذريته قد عادوا بعد ذلك إلى "الزُّلْفِي"، ولا يزالُون بها إلى اليومِ.
والحديثُ عن آلِ الجريسيِّ لا يَكْتَمِلُ إلا بالحديثِ عن بلدة «رَغْبَة»، ودَوْرِ آلِ الجريسيِّ الكبير في جعلها أولى بلدان المحمل انضواء تحت لواء الدعوة السلفية.

نبذة عن بـَلـْدَة "رَغْبَة"

ضبط اسم البلدة:

وقد اختَلَفَ الباحثون والمؤرِّخون في ضبطِ اسمِ البلدةِ «رغبة»:
فذهَبَ فريقٌ منهم: إلى تحريكِ جميعِ حروفِ الاسْمِ «رَغَبَة»؛ ومنهم المؤرِّخُ والأديبُ عبد الله بن محمَّد بن خَمِيس الذي ضَبَطَهَا بفتحِ الراءِ والغَيْنِ والباءِ فهاء, وذَهَبَ آخرون: إلى تَسْكِينِ الغَيْنِ وتحريكِ بقيَّةِ الحُرُوفِ «رَغْبَة»؛ ومنهم المؤرِّخ حَمَد الجاسر.
قلتُ: والخلافُ في ضبطِ الاسمِ يَعُودُ إلى سَبَبٍ صوتيٍّ لفظيٍّ لا إلى سَبَبٍ معنويٍّ؛ فقد قَرَّر الصَّرْفِيُّونَ أنَّ كُلَّ ما كان مِنَ الأسماءِ على وزنِ "فَعْلٍ" أو "فَعْلَةٍ", وعينُهُ حرفُ حَلْق - : فإنَّه يَجُوزُ فيه فتحُ العَيْنِ, فيقالُ: البَحْر والبَحَر, والنَّهْر والنَّهَر, والشَّعْرَة والشَّعَرَة, وكذلك هنا: رَغْبَة ورَغَبَة, وهاتان - عند البَصْريين - لغتان, وأمَّا الكوفيُّون: فجَعَلُوا المفتوحَ العَيْنِ فَرْعًا لساكنِهَا, ورَأَوْا ذلك قياسًا مُطَّرِدًا؛ والله أعلم.
الموقعُ الجُغْرافيُّ والحُدُودُ :
تقع "رَغْبَة" في منطقة الرياض على بعد 120كم شمال غرب مدينة الرياض العاصمة, ويصلُهَا بالرِّيَاضِ الطريقُ القادمُ مِنَ القَصَبِ فحُرَيْمِلَاء. وتتوسَّطُ "رَغْبَة" أرضًا مكشوفةً يتقاطعُ عندها خَطُّ الباديةِ الذي يربطُ بين طريقِ سُدَيْرٍ وطريقِ الحِجَازِ القديمِ، مع طريقِ القَصَبِ القادمِ مِنَ القَصَبِ باتجاه حُرَيْمِلاءِ. وتَتْبَعُ "رَغْبَة" إِدَارِيًّا محافظةَ ثادقِ قاعدةِ الْمِحْمَلِ التابعةِ لإمارةِ منطقةِ الرِّيَاض. أمَّا موقعُهَا الفَلَكِيُّ: فهو 7ق، 25د شمالًا. و46ق، 45د شَرْقًا.

يُحِيطُ بِبَلْدَةِ "رَغْبَة" الكثيرُ مِنَ المُدُنِ والقُرَى التي تُشَكِّلُ حُدُودَهَا الجغرافيَّةَ؛ وذلك على النَّحْوِ التالي: من الشمال: ثادق، ومن الجنوب: العُوَيْنِد والبَرَّة، ومن الشرق: حُرَيْمِلَاء، ومن الغرب: ثَرْمَدَاء والقَصَب .

أمَّا الحدودُ الطبيعيَّةُ لبلدةِ "رَغْبَة"، فتتمثَّلُ في: جَبَلِ الغُرَابَةِ في الشَّمَال، وجَبَل عُرَيْض في الجنوب، وسلسلة جبالِ طُوَيْق في الشرق، ونُفُودِ "رَغْبَة" في الغَرْبِ والشَّمَال.

وقد لَعِبَتْ "رَغْبَة" منذُ نشأتِهَا حتى عَهْدٍ قريبٍ دورًا بارزًا في منطقةِ الْـمِحْمَل, فقد كانتْ أُولَى بلدانِ الْمِحْمَلِ استجابةً لدعوةِ الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهُ الله، وتأييدًا لها؛ وذلك عامَ 1164هـ، أي: بعد سِتَّةِ أعوامٍ مِنْ إعلانِ انطلاقِ الدعوة.
وباستردادِ الملك عبد العزيز - طيَّب اللهُ ثراه - للرِّيَاضِ عامَ 1319هـ، وتجديدِهِ لِلدَّوْرِ السُّعوديِّ المناصرِ للدعوةِ في المنطقةِ العربيَّةِ والعالَمِ الإسلاميِّ: سارعَتْ "رَغْبَة" لتحتَلَّ موقعًا في تاريخِ الملكِ عبد العزيز الْـمَجِيد؛ حيث كان لكثيرين مِنْ أهلِ "رَغْبَة"شَرَفُ المساهمةِ في عَدَدٍ مِنَ مَعَارِكِ الملك عبد العزيز المختلفةِ الرامية إلى توحيد البلاد.

التَّمَرْكُزُ السُّكَّانِيُّ وعَدَدُ السُّكَّانِ:
يَسْكُنُ "رَغْبَة" الكَثِيرُ مِنَ الأُسَرِ العريقةِ والكريمة, وقد شكَّلوا فيها مجتمَعًا مترابِطًا تَسُودُهُ المحبَّةُ والأُلْفَةُ والأُخُوَّةُ العربيَّة الإسلاميَّة، ويُقِيمُ السكانُ في «رَغْبَة» قديمًا في حَيَّيْنِ رئيسَيْنِ, هما: «حَيُّ الْـحَزْمِ», و«حَيُّ نَبْعَةَ»؛ فهما يمثِّلان الْـمَقَرَّ الدائمَ لسكانِ البلدةِ، إضافةً إلى مَقَرٍّ ثالثٍ موسميٍّ يقطُنُهُ أهلُ "رَغْبَة" في مواسمِ الأمطار, وهو سَحَقُ "رَغْبَة"، أو ما يسمَّى بـ «البُطَيْن»، وقد أُحْصِيَ من يَقْطُنُ هذا السَّحَقَ عام 1383هـ؛ فوُجِدُوا 49 نَسَمَةً ، أمَّا هذه الأيامَ: فقد خلا ذلك السَّحَقُ مِنَ السكان.

وفي أيَّامنا هذه تَزْدَهِرُ المنطقة بالمخطَّطاتِ الحديثةِ شماليَّ غَرْبِ البلدةِ، بالإضافةِ إلى تمركُزِ بعضِهِمْ حولَ بعضِ المزارعِ ومناطقِ البلدةِ الأخرى؛ مِثْلُ نَبْعَة, والفَيْضَة, والْمـَخْر. أمَّا الـْحَزْمُ: فقد خلا مِنَ السكانِ ما عدا بعضَ العُمَّالِ الوافدين.

وقد أَدَّى عاملُ الهِجْرَةِ إلى تقلُّصٍ شديدٍ في عَدَدِ السكان, ولعلَّ من أهمِّ العواملِ التي سَاعَدَتْ على الْهِجْرَةِ السَّعْيَ لتحسينِ الظروفِ المعيشيَّةِ والتعليميَّةِ ، وقد كانتِ الهجرةُ في مُـجْمَلِهَا داخليَّةً إلى مُدُنِ المملكةِ المختلفة, وعلى رأسها مدينةُ الرياض, وإنْ كانتْ هناك هِجْرَةٌ خارجيَّةٌ لبعضِ الأُسَرِ إلى الكويتِ إلا أنها محدودة. أمَّا تعدادُ السُّكَّان - حَسَبَ النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والمساكن عام 1425هـ :- فقد بَلَغَ 1369 نَسَمَةً فقطْ.

وبتتبُّعِ تاريخِ الاستيطانِ في بلدةِ "رَغْبَة" وُجِدَ أنَّ هناك خِلَافًا في تحديدِ أَوَّلِ مَوْقِعٍ بُنِيَ في «رَغْبَة»؛ فقيل: إنَّه "النُّقَيَّات"، وقيل: إنه "الفُقَيْر", وكان ذلك عامَ 1079هـ؛ حين بَنَى أهلُ "رَغْبَة" حَوْطَتَهُمُ الأُولَى، ثُمَّ بُنِيَ بعد ذلك ما يُعْرَفُ باسمِ "البلادِ السُّفْلى"؛ وسمُـِّيـَتْ بذلك لانخفاضِهَا عن الأراضي المجاورةِ لها، وقد اتَّضَحَ مِنَ الْـمَسْحِ الميدانيِّ أنها تقَعُ إلى الغَرْبِ من المخطَّطِ الحديث، وقد تفرَّعَ مِنَ البلادِ السفلى حَيُّ الْـحَزْمِ ، وحَيُّ نَبْعَة.

و"الْـحَزْمُ" - كما جاءَ في "لسانِ العَرَبِ"-: ما غَلُظَ مِنَ الأَرْض ، وسُمِّيَ حَيُّ نَبْعَة بذلك تشبيهًا بِيَنْبُوعِ الماء؛ إذْ بَرَزَتْ فيه البيوتُ, وانتشَرَتْ سريعًا بما يُشبِهُ تفجُّرَ الماءِ من النَّبْعِ وانتشارِهِ، قال ابن منظور في "اللسان": نَبَعَ الماءُ ... نَبْعًا ونُبُوعًا: تفجَّر.
ولعلَّ المبانيَ القديمةَ القائمةَ في هَذَيْنِ الحَيَّيْنِ تُوَضِّحُ أسلوبَ البناءِ القديمِ في مَوْقِعِ البلادِ السُّفْلَى, ويُمَثِّلُ كُلٌّ مِنْ حَيِّ الحَزْمِ، وحَيِّ نَبْعَةَ: المرحلةَ الأساسيَّةَ الثالثةَ مِنَ الِاستيطانِ، بعد موقعِ النُّقَيَّاتِ والبلادِ السُّفْلَى؛ حيثُ عاشَ أهلُ "رَغْبَة" في هَذَيْنِ الحَيَّيْنِ، ابتداءً مِنْ عامِ 1107هـ؛ حين ظَهَرَ أَهْلُ "رَغْبَة" إلى جَوِّهِمُ الظَّاهِرِيِّ, واستَمَرُّوا بِهِمَا حتَّى بدايةِ النهضةِ العمرانيَّةِ التي مَرَّتْ بها المملكة؛ حيثُ دَخَلَ التخطيطُ الحديثِ بلدةَ "رَغْبَة"، وظَهَرَتِ المخطَّطاتُ الحديثةُ، وانتقَلَ السُّكَّانُ إلى المباني الخَرَسَانِيَّةِ التي بُنِيَتْ وَفْقَ تلك المخطَّطاتِ، ولَعَلَّ السُّـيُولَ التي دَاهَمَتِ البلدةَ عَامَيْ 1400هـ و1406هـ, وأَلْـحَقَتِ الضَّرَرَ ببعضِ بيوتها قد أَسْهَمَتْ بِشَكْلٍ فاعلٍ في انتقالِ أهلِ "رَغْبَة"، إلى المخطَّطاتِ الحديثة، وبذلك أُهْمِلَتِ المباني القديمةُ وتهدَّم معظمُهَا.

هذه نبذة مقتضبة عن بلدة "رغبة" الموطن الثاني لعائلة الجريسي وبالأخص عائلة علي بن محمد الجريسي الذين استقروا بها ولم يغادروها إلا بعد ظهور النهضة التنموية الشاملة التي شهدتها المملكة العربية في بداية التسعينات من القرن الماضي.